الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول ***
أول واجب على العبيد *** معرفة الرحمن بالتوحيد إذ هو من كل الأوامر أعظم *** وهو نوعان أيا من يفهم إثبات ذات الرب جل وعلا *** أسمائه الحسنى صفاته العلى وأنه الرب الجليل الأكبر *** الخالق البارئ والمصور باري البرايا منشىء الخلائق *** مبدعهم بلا مثال سابق. (أول واجب) فرضه الله عز وجل (على العبيد) هو (معرفة الرحمن) أي معرفتهم إياه (بالتوحيد) الذي خلقهم له، وأخذ عليهم الميثاق به، ثم فطرهم شاهدين مقرين به، ثم أرسل به رسله إليهم، وأنزل به كتبه عليهم. (إذ) حرف تعليل لأولية وجوب معرفة العباد ربهم تبارك وتعالى بالتوحيد (هو من كل الأوامر) جمع أمر وهو خطاب الله عز وجل المتعلق بالمكلفين بصيغة تستدعي الفعل (أعظم) كما أن ضده من الشرك والتعطيل والتمثيل، هو أعظم المناهي، ولهذا لا يدخل العبد في الإسلام إلا به، ولا يخرج منه إلا بضده، ولم يزحزح عن النار، ويدخل الجنة إلا به. ولا يخلد في النار ويحرم الجنة إلا بضده، ولم تدع الرسل إلى شيء قبله، ولم تنه عن شيء قبل ضده. (وهو) أي التوحيد (نوعان): الأول: التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي المتضمن إثبات صفات الكمال لله عز وجل وتنزيهه فيها عن التشبيه والتمثيل، وتنزيهه عن صفات النقص، وهو توحيد الربوبية والأسماء والصفات. والثاني: التوحيد الطلبي القصدي الإرادي، وهو عبادة اللّه تعالى وحده لا شريك له، وتجريد محبته والإخلاص له، وخوفه ورجاؤه، والتوكل عليه، والرضا به ربا وإلهاً وولياً، وأن لا يجعل له عدلًا في شيء من الأشياء، وهو توحيد الإلهية. والقرآن كله من أوله إلى آخره في تقرير هذين التوحيدين؛ لأنه إما خبر عن الله- عز وجل- وما يجب أن يوصف به، وما يجب أن ينزه عنه، وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الطلبي الإرادي. وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرامه لأهل التوحيد، وما فعل بهم في الدنيا من النصر والتأييد، وما يكرمهم به في الآخرة، وهو جزاء توحيده. وإما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يفعل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم توحيده. فالقرآن كله في التوحيد، وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم، اقرأ في الجمع بين التوحيدين (طه ما أنزلنا عليكَ القرآن لتشقى إلا تذكرةً لمنْ يَخشى تنزيلاً مِمّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العُلى الرحمنُ على العرشِ استوى له ما في السماواتِ وما في الأرضِ وما بينهما وما تحت الثرى وإنْ تجهر بالقولِ فإنه يعلم السِرَّ وأخفى اللّه لا إله إلا هو له الأسماءُ الحسنى)، (طه 1- 8) وآية الكرسي، وقل هو الله أحد، وغيرها من القرآن. واقرأ في الأمر والنهي (وما آتاكم الرسولُ فخذوهُ وما نهاكم عَنْهُ فانتهوا)، (الحشر 7)، واقرأ في إكرام أهل التوحيد في الدنيا والآخرة (إِنَّا لَنَنْصُر رُسلَنا والذين آمنوا في الحياةِ الدنيا ويومَ يقومُ الأشهاد) (غافر 51)، واقرأ في إخزاء أهل الشرك في الدنيا والآخرة (واستكبرَ هُو وجنوده في الأرضِ بغيرِ الحقِّ وَظَنّوا أنهم إلينا لا يرجعون فأخذناهُ وجنوده فنبذناهم في اليَمِّ فانظر كيفَ كانَ عاقبةُ الظالمين وجعلناهم أئمةً يدعونَ إلى النّار وَيَوْمَ القيامةِ لا يُنصرون وأتبعناهُم في هذه الدنيا لعنةً ويومَ القيامةِ هم من المقبوحين)، (القصص 39- 42). والكلام في هذا الفصل على النوع الأول، وهو التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي، وهو (إثبات) بالرفع بدل بعض من قولنا " نوعان " أي الأول منهما (إثبات ذات الرب جل وعلا)، فإن هذه العوالم العلويات والسفليات لا بد لها من موجد أوجدها، ويتصرف فيها ويدبرها. ومحال أن توجد بدون موجد، ومحال أن توجد أنفسها. قال الله تبارك وتعالى في مقام إثبات الربوبية وتوحيد الألوهية: (أمْ خُلِقوا مِنْ غيرِ شيءٍ أمْ هم الخالقون أمْ خَلَقوا السماواتِ والأرضَ بل لا يوقنون)، (الطور 35- 36). قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أم خُلِقوا من غير شيء) أي من غير رب. ومعناه: أخلقوا من غير شيء خلقهم، فوجدوا بلا خالق، وذلك مما لا يجوز أن يكون؛ لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فلا بد له من خالق فإن أنكروا الخالق، لم يجز أن يوجدوا بلا خالق. (أم هم الخالقون) لأنفسهم وذلك في البطلان أشد؛ لأن ما لا وجود له كيف يخلق، فإذا بطل الوجهان، قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقاً، فليؤمنوا به (أم خلقوا السماوات والأرض) وهذا في البطلان أشد وأشد، فإن المسبوق بالعدم يستحيل أن يوجد بنفسه، فضلاً عن أن يكون موجداً لغيره، وهذا إنكار عليهم في شركهم باللّه عز وجل وهم يعلمون أنه الخالق لا شريك له (بل لا يوقنون)، أي ولكن عدم إيقانهم هو الذي يحملهم على ذلك. وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فلما بلغ هذه الآية: (أمْ خًلِقوا مِنْ غَيرِ شيءٍ أمْ هُم الخالقون أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون أم عندهم خزائن ربك أم هم المسيطرون)، (الطور 35- 37) كاد قلبي أن يطير. أخرجاه في الصحيحين. وكثيراً ما يرشد الله تبارك وتعالى عباده إلى الاستدلال على معرفته بآياته الظاهرة من المخلوقات العلوية والسفلية، كما قال تعالى: (وفي الأرضِ آياتٌ للموقنين)، (الذاريات 20) أي فيها من الآَيات الدالة على عظمة خالقها، وقدرته الباهرة، مما قد ذرأ فيها من صنوف النبات والحيوانات، والمهاد والجبال والقفار، والأنهار والبحار، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، وما جبلوا عليه من الإرادات والقوى، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم، والحركات والسعادة والشقاوة، وما في تركيبهم من الحكم في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه، ولهذا قال عز وجل: (وفي أنْفُسِكم أفلا تبصرون)، (الذاريات: 21). قال قتادة: من تفكر في خلق نفسه، علم أنه إنما لينت مفاصله للعبادة، وكذا ما في ابتداء الإنسان من الآيات العظمية، إذ كانت نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظاماً إلى أن نفخ فيه الروح. وقال تعالى: (والسماءَ بنيناها بِأيْدٍ وإِنا لموسعون والأرضَ فرشناها فَنعم الماهدون ومن كلِّ شيءٍ خلقنا زوجينِ لعلكم تذكرون) (الذاريات 47- 49). يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسفلي: (والسماء بنيناها) أي جعلناها سقفاً محفوظاً رفيعاً (بأيد) أي بقوة، قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة، والثوري وغير واحد، (وإنا لموسعون) قال ابن عباس رضي الله عنهما: لقادرون. وعنه أيضاً: لموسعون الرزق على خلقنا. وقيل: ذو وسعة. وقال ابن كثير: أي قد وسعنا أرجاءها ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي. (والأرض فرشناها) أي جعلناها فراشاً للمخلوقات، (فنعم الماهدون) الباسطون نحن. قال ابن عباس: نعم ما وطأت لعبادي. (ومن كل شيء خلقنا زوجين) صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والجنة والنار، والحق والباطل، والحلو والمر، والدنيا والآخرة، والموت والحياة، والجامد والنامي، والمتحرك والساكن، والحر والبرد وغير ذلك (لعلكم تذكرون) أي لتعلموا أن الخالق واحد فرد، لا شريك له. ا هـ. ابن كثير والبغوي. وقال تعالى: (إن في خَلْقِ السماواتِ والأرض واختلافِ الليل والنهارِ والفُلكِ التي تجري في البَحر بما ينفع الناس وما أنزل اللّه من السماءِ من ماء فأحيا به الأرضَ بَعْدَ موتها وبث فيها مِنْ كُل دابةِ وتصريفِ الرياحِ والسَّحابِ المسخر بين السماءِ والأرض لآياتٍ لقوم يعقلون)، (البقرة 164). قال أبو الضحى: لما نزلت (وإلهكم إلهٌ واحد لا إله إلا هو الرحمنُ الرحيم)، قال المشركون: إن كان هكذا، فليأتنا بآية، فأنزل الله عز وجل: (إن في خلق السماوات والأرض) تلك في ارتفاعها ولطافتها، واتساعها وكواكبها السيارة والثوابت، ودوران فلكها، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها، وجبالها وبحارها، وقفارها ووهادها وعمرانها، وما فيها من المنافع (واختلاف الليل والنهار) هذا يجيء ثم يذهب، ويخلفه الآخر ويعقبه ولا يتأخر عنه لحظة، كما قال تعالى: (لا الشَّمسُ ينبغي لها أن تُدْرِكَ القمرَ ولا الليلُ سابقُ النهار وكلُّ في فلك يسبحون)، (يس 40)، وتارة يطول هذا، ويقصر هذا، وتارة يأخذ هذا من هذا، ثم يتعاوضان، كما قال تعالى: (يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل)، أي يزيد من هذا في هذا، ومن هذا في هذا، (والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس) أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب لمعايش الناس، والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم، ونقل هذا إلى هؤلاء، (وما أنزل اللّه من السَّماءِ من ماءٍ فأحيا بِه الأرضَ بَعْدَ موتها)، كما قال تعالى: (وآية لهم الأرضُ الميتةُ أحييناها وأخرجْنا منها حباً فمنهُ يأكلون)، (يس 33)... إلى قوله: (ومما لا يعلمون). (وبث فيها من كل دابة) على اختلاف أشكالها، وأنواعها وألوانها، ومنافعها وصغرها وكبرها، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه، لا يخفي عليه شيء من ذلك، كما قال تعالى: (وما منِ دابةٍ في الأرْضِ إلا على اللّه رزقها ويعلم مستقرها ومستودَعها كل في كتابٍ مبين)، (وتصريف الرياح) فتارة تأتي بالرحمة، وتارة تأتي بالعذاب، وهي الريح، وتارة تأتي مبشرات بين يدي السحاب، وتارة تسوقها، وتارة تجمعه، وتارة تفرقه، وتارة تصرفه، ثم تارة تأتي من الشمال وهي الشامية، وتارة تأتي من ناحية اليمن، وتارة صبا وهي الشرقية، وتارة دبور وهي غربية، وغير ذلك والله أعلم. (والسحاب المسخر بين السماء والأرض) أي سائر بين السماء والأرض، مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن، كما يصرفه تعالى- (لآيات لقوم يعقلون) أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى. (لقوم يعقلون) فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً، غنياً بذاته، وكل ما سواه فقير إليه، قائم بذاته، وكل ما سواه لا يقوم إلا به، قدير لذاته، وكل ما سواه عاجز لا قدرة له إلا بما أقدره، متصف بجميع صفات الكمال، وكل ما سواه فلازمه النقص، وليس الكمال المطلق إلا له، وهو الله تبارك وتعالى. وقال تبارك وتعالى: (ومن آياتِه أنْ خَلَقكم من تُرابٍ ثم إذا أنتم بشرٌ تنتشرون ومن آياته أنْ خَلَق لكُم من أنْفسِكم أزواجاً لِتَسكنوا إليها وجعلَ بينكم مودة ورحمة إن في ذلكَ لآياتٍ لقوم يتفكرون ومن آياته خَلْق السماوات والأرض واختلافُ ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامُكم بالليل والنهار وابتغاؤكُم مِنْ فَضْله إن في ذلك لآياتٍ لقوم يسمعون ومن آياته يريكم البرق خوفاً وطمعاً وينزل من السماء ماءً فيحيي بهِ الأًرضَ بعد موتها إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون ومن آياته أنْ تقوم السماءُ والأرض بأمْره ثم إذا دعاكم دعوةً من الأرضِ إذا أنتم تخرجون)، (الروم 20- 25). يقول تعالى: (ومن آياته) الدالة على عظمته وكمال قدرته أنه خلق أباكم آدم من تراب، (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)، فأصلكم من تراب ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظاماً، شكله شكل إنسان، ثم كسا الله تعالى تلك العظام لحماً، ثم نفخ فيه الروح، فإذا هو سميع بصير، ثم أخرج من بطن أمه صغيراً، ضعيف القوى والحركة، ثم كلما طال عمره، تكاملت قوا ه وحركاته، حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويسافر في أقطار الأقاليم ويركب متن البحور، ويدور أقطار الأرض، ويكتسب ويجمع الأموال، وله فكرة وغور، ودهاء ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة، كل بحسبه، فسبحان من أقدرهم وسيرهم، وسخرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب، وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة. وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى خلق آدم من قبضة، قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر، والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب، والسهل والحزن، وغير ذلك . رواه أحمد وأبو داود والترمذي. وقال: حسن صحيح. (ومن آياته أن خلق لكم من أنْفُسِكم أزواجاً) أي خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً؛ (لتسكنوا إليها)، كما قال تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدةٍ وجعل منها زوجَها ليسكنَ إليها)، (الأعراف 189)، يعني بذلك حواء، خلقها الله تعالى من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر، ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل الأزواج من جنسهم، (وجعل بينهم مودة) وهي المحبة، (ورحمة) وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إِما لمحبة لها، أو لرحمة بها بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق أو للألفة بينهما وغير ذلك، (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) في عظمة الله وقدرته، (ومن آياته) الدالة على قدرتة العظيمة (خلق السماوات والأرض) أي خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وشفوف أجرامها، وزهارة كواكبها ونجومها الثوابت والسيارات، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافتها، وما فيها من جبال وأودية، وبحار وقفار، وحيوان وأشجار، (واختلاف ألسنتكم) يعنىِ اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء + تتر لهم لغة أخرى، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء إفرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء فرس، وهؤلاء صقالبة، وهؤلاء خزر، وهؤلاء أرمن، وهؤلاء أكراد، إِلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله عز وجل من اختلاف لغات بني آدم (وألوانكم) أي واختلاف ألوانكم أبيض وأسود وأحمر، وأنتم أولاد رجل واحد وامرأة واحدة، وغير ذلك من اختلاف الصفات والحلى، فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، كل له عينان وحاجبان، وأنف وجبين، وفم وخدّان، وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة، أو الكلام ظاهراً كان أو خفياً، يظهر عند التأمل كل وجه منهم أسلوب بذاته، وهيئة لا تشبه أخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح، لا بد من فارق بين كل واحد منهم وبين الآخر، (إن في ذلك لآيات للعالمين ومن آياته منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله) أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل، فإن فيه تحصل الراحة وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار، وهذا ضد النوم، (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) سماِع تدبر واعتبار، (ومن آياته) الدالة على عظمته أنه (يريكم البرق خوفاً وطمعاَ) أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة وصواعق متلفة، وتارة ترجون وميضه وما يأتي بعده من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى: (وينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض بعد موتها) أي بعدما كانت هامدة، لا نبات فيها ولا شيء، (فإذا أنزلنا عليها الماء اهتَزَّتْ وَرَبت وأنبتتْ من كل زَوْج بهيج)، (الحج 5)، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة على المعاد وقيام الساعة، ولهذا قال تعالى: (إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لقوم يعقلون ومن آياتِه أن تقومَ السماءُ والأرضُ بأمْرِه)، (الروم 25- 26)، كقوله تعالى: (ويُمسكُ السماءَ أنْ تقعَ على الأرض إلا بإذنه)، (الحج 65)، وقوله تعالى: (إنَّ اللّه يمسكُ السماواتِ والأرضَ أن ثزولا ولئن زالتا إن أمسكَهما من أحدٍ من بعدِه)، (فاطر 41)، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال: والذي قامت السماوات والأرض بأمره، أي هي قائمة ثابتة بأمره لها، وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء بأمره تعالى ودعائه إياهم، قال تعالى: (ثم إذا دعاكم دعوةً من الأرضِ إذا أنتم تَخْرجون)، أي من الأرض كما قال تعالى: (يَوْمَ يدعوكم فتستجيبونَ بحمدهِ وتظنّونَ إن لبثتم إلا قليلاً)، (الإسراء 52)، و قال تعالى: (فإنما هيَ زجرةٌ واحدة فإذا هُم بالساهرة)، (النازعات 13- 14)، وقال تعالى: (إن كانت إلا صيحةً واحدة فإذا هم جميعٌ لدينا محضرون)، (يس 53). والآيات في هذا الباب العظيم من الاستدلال بالمخلوقات على وجود خالقها وقدرته وعظمته أكثر من أن تحصى، وأجل من أن تستقصى، وفيما ذكرنا كفاية وغنى يغني عن خرط المناطقة، ومقدماتهم ونتائجهم، وتناقضهم فيها، والله تبارك وتعالى أعلى وأكبر، وأجل وأعظم من أن يحتاج في معرفة وجوده إلى شواهد واستدلالات، فذات المخلوق نفسه شاهدة بوجود خالقه حيث أوجده، ولم يكن من قبل شيئاً، فَلِمَ يذهب يستدل بغيره، وفي نفسه الآية الكبرى والبرهان الأعظم، وشأن الله تعالى أكبر من ذلك، ولم يجحد وجوده تعالى من جحده من أعدائه إلا على سبيل المكابرة، ولهذا قال تعالى في كفرهم بآياته: (وَجَحدوا بها واستَيْقنتها أنْفُسهم ظلماً وَعُلّوا)، (النمل 14)، فكيف بوجود الخالق تبارك وتعالى. ولهذا لما قال أعداء الله لرسله على سبيل المكابرة لما جاءوهم بالبينات، فردوا أيديهم في أفواههم، وقالوا: (إنا كفرنا بما أرْسِلتم به وإِنا لفي شَكٍّ مما تدعوننا إليه مريب قالت رُسُلهم أفي اللّه شَك فاطِرِ السماواتِ والأرض)، (إبراهيم 9- 10)، وهذا يحتمل شيئين: أحدهما: أفي وجوده تعالى شك، فإن الفطر شاهدة بوجوده، ومجبولة على الإقرار به، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة، ولكن قد يعرض لغيرها شك واضطراب، وأكثر ذلك على سبيل المكابرة والاستهزاء، فيجب إقامة الحجة عليهم للإعذار إليهم، ولهذا قالت لهم رسلهم ترشدهم إلى طريق معرفته، فقالوا: (فاطر السماوات والأرض) الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهرة عليهما، فلا بد لهما من خالق، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء وإلهه ومليكه. والمعنى الثاني في قولهم (أفي اللّه شك) أي أفي إلهيته وتفرده بوجود العبادة له شك، وهو الخالق لجميع الموجودات، ولا يستحق العبادة إلا هو، وحده لا شريك له، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالخالق، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم، والجواب لهذا الاستفهام على كلا المعنيين: لا، أي لا شك فيه.
قال الله تبارك وتعالى: (ألَمْ تَرَ إلى الذِي حاج إبْرَاهِيمَ في رَبِّهِ أنْ أتاهُ اللّه الْمُلْكَ إذ قال إبراهيمُ ربي الذي يُحيي ويُميتُ قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيمُ فإنَّ اللّه يأتي بالشمسِ من المشرقِ فأتِ بها من المغرب فبُهِتَ الذي كفر واللّه لا يَهْدي القومَ الظالمين)، (البقرة 258). قال المفسرون وغيرهم من علماء النسب والأخبار: هذا المحاج هو ملك بابل، واسمه نمرود بن كنعان، ذكروا أنه استمر في ملكه أربعمائة سنة، وكان قد طغى وبغى، وتجبر وعتا وآثر الحياة الدنيا، ولما دعاه الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له، حمله الجهل والضلال وطول الآمال على إنكار الخالق- جل وعلا- عناداً ومكابرة، فحاجَّ إبراهيم الخليل في ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، فلما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: (ربي الذي يحي ويميت قال أنا أحى وأميت). قال قتادة والسدي، ومحمد بن إسحاق: يعني أنه إذا أتى بالرجلين قد تحتم قتلهما، فإذا أمر بقتل أحدهما وعفا عن الآخر، فكأنه قد أحيا هذا وأمات هذا الآخر. وهذا ليس بمعارضة للخليل عليه الصلاة والسلام بل هو كلام خارجي عن مقام المناظرة، ليس بمنع ولا بمعارضة، بل هو تشغيب محض، وهو انقطاع في الحقيقة، فإن الخليل عليه الصلاة والسلام استدل على وجود الخالق- جل وعلا- بحدوث هذه المشاهدات من إحياء الحيوانات وإماتتها على وجود فاعل ذلك الذي لا بد من استنادها إليه في وجودها ضرورة؛ لعدم قيامها بأنفسها، ولا بد من فاعل لهذه الحوادث المشاهدة من خلقها وتسخيرها، وتسيير هذه الكواكب والرياح، والسحاب والمطر، وخلق هذه الحيوانات التي توجد مشاهدة ثم إماتتها، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام: (ربي الذي يحيي ويميت)، فقول هذا الجاهل أنا أحيي وأميت إن عني أنه الفاعل لهذه المشاهدات، فقد كابر وعاند، وإن عني ما ذكره قتادة والسدي، ومحمد بن إسحاق، فلم يقل شيئاً يتعلق بكلام الخليل، إذ لم يمنع مستلزماً، ولا عارض الدليل. ولما كان انقطاع مناظرة هذا المحاجّ قد تخفى على كثير من الناس ممن حضره وغيرهم، ذكر دليلاً آخر بين وجود الخالق، وبطلان ما ادعاه النمرود، وانقطاعه جهرة (قال إبراهيم فإنَّ اللّه يأتي بالشمسِ من المشرقِ فأتِ بها من المغرب) أي هذه الشمس مسخرة كل يوم تطلع من المشوق، كما سخرها خالقها ومسيّرها وقاهرها، وهو الله الذي لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فإن كنت كما زعمت أنك تحيي وتميت، فأت بهذه الشمس من المغرب، فإن الذي يحيي ويميت هو الذي يفعل ما يشاء، ولا يمانع ولا يغالب، بل قد قهر كل شيء، ودان له كل شيء، فإن كنت كما تزعم، فافعل هذا، فإن لم تفعله فلست كما زعمت، وأنت تَعلم وكل أحد أنك لا تقدر على شيء من هذا، بل أنت أعجز وأقل وأذل من أن تخلق بعوضة أو تتصرف فيها. فبين ضلاله وجهله وكذبه فيما ادعاه، وبطلان ما سلكه وتبجح به عند جهلة قومه، ولم يبق له كلام يِجيب الخليل عليه الصلاة والسلام به، بل انقطع وسكت، ولهذا قال تعالى: (فبهت الذي كفر واللّه لا يهدي القوم الظالمين).
قال الله تبارك وتعالى: (قَالَ فِرْعونُ وما ربُّ العالمين قال ربُّ السماواتِ والأرضِ وما بينهما إِنْ كُنتم موقنين قال لِمن حولَه ألا تستمعون قال ربُّكم وربُّ آبائِكُم الأولين قال إِنَّ رسولَكم الذي أرسَل إِليكم لمجنون قال ربُ المشرقِ والمغرب وما بينهما إِنْ كنتم تعقلون)، (الشعراء 23- 28). يذكر تعالى ما كان بين موسى وفرعون من المقاولة والمحاجَّة والمناظرة، وما أقامه الكليم على فرعون اللئيم من الحجة العقلية المعنوية، ثم الحسية، وذلك أن فرعون- قبحه الله- أظهر جحد الخالق تبارك وتعالى وزعم أنه الإله، (فَحَشر فنادى فقال أنا ربّكم الأعلى)، (النازعات 23)، وقال: (يا أيها الملأ ما عَلِمتُ لَكُم مِنْ إلهٍ غيري)، (القصص 38). وهو في هذه المقالة معاند يعلم أنه عبد مربوب، وأن اللّه هو الخالق البارئ المصور، الإله الحق، كما قال تعالى: (وجحدوا بها واستيْقنتها أنفسهم ظلماً وَعًلّواً فانظر كيف كان عاقبةُ المفسدين)، (النمل 14)، ولهذا قال لموسى عليه السلام على سبيل الإنكار لرسالته، وإظهار أنه ما ثمَّ رب أرسله، (وما رب العالمين) لأنهما قالا له: (إنا رسول رب العالمين)، فكأنه يقول لهما: ومن رب العالمين الذي تزعمان أنه أرسلكما وابتعثكما؟ فأجابه موسى قائلًا: (رب السماوات والأرض وما بينهما)، أي خالق جميع ذلك ومالكه، والمتصرف فيه، وإلهه لا شريك له، هو الله الذي خلق الأشياء كلها، العالم العلوي وما فيه من الكواكب النيرات الثوابت والسيارات، والعالم السفلي وما فيه من بحار وأنهار، وقفار وجبال، وأشجار وحيوانات، ونبات وثمار، وما بين ذلك من الهواء والطير، والسحاب المسخر، والرياح والمطر وما يحتوي عليه الجو، وغير ذلك من المخلوقات التي يعلم كل موقن أنها لم تحدث بأنفسها، ولا بد لها من موجد ومحدث وخالق، وهو الله الذي لا إله إلا هو رب العالمين، الجميع مذللون مسخرون، وعبيد له خاضعون ذليلون، (إن كنتم موقنين) أي إن كانت لكم قلوب موقنة، وأبصار نافذة (قال) أي فرعون (لمن حوله) من أمرائه ومرازبته وكبرائه، ورؤساء دولته على سبيل التهكم والتنقص، والاستهزاء والتكذيب لموسى عليه الصلاة والسلام فيما قاله (ألا تستمعون) أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري، فقال لهم موسى: (ربكم ورب آبائكم الأولين) أي هو الذي خلقكم والذين من قبلكم من الآباء والأجداد والقرون السالفة في الآباد، فإن كل واحد يعلم أنه لم يخلق نفسه، ولا أبوه ولا أمه، ولم يحدث من غير محدث، وإنما أوجده وخلقه رب العالمين، وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: (سنريهِم آياتِنا في الآفاقِ وفي أنْفسهم حتى يَتَبَيَّن لهم أنه الحق)، (فصلت 53). ومع هذا كله لم يستفق فرعون من رقدته، ولا نزعِ عن ضلالته، بل استمر على طغيانه وعناده وكفرانه، (قال إِن رسولَكم الذي أُرسل إليكم لمجنون)، (الشعراء 27) أي ليس له عقل في دعواه أن ثم ربا غيري. (قال) أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبه، فأجاب موسى عليه السلام بقوله: (رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون) أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الكواكب، والمغرب مغرباً تغرب فيه الكواكب ثوابتها وسياراتها مع هذا النظام الذي سخرها فيه وقدرها، وهو الله لا إله إلا هو، خالق الظلام والضياء، ورب الأرض والسماء، رب الأولين والآخرين، خالق الشمس والقمر، والكواكب السائرة والثوابت الحائرة، خالق الليل بظلامه، والنهار بضيائه، والكل تحت قهره وتسخيره وتسييره سائرون، وكل في فلك يسبحون، يتعاقبون في سائر الأوقات ويدورون، فهو تعالى الخالق المالك، المتصرف في خلقه بما يشاء. فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقاً، فليعكس الأمر، وليجعل المشرق مغرباً، والمغرب مشرقاً، والثابت سائراً، والسائر ثابتاً، كما قال تعالى عن الذي حاجَّ إبراهيم في ربه في الآية السابقة. ولما قامت الحجج على فرعون، وذهبت شبهه، وغُلِبَ وانقطعت حجته، ولم يبق له قول سوى العناد، عدل إلى استعمال جاهه وقوته، وسلطانه وسطوته، واعتقد أن ذلك نافعاً له، ونافذاً في موسى عليه الصلاة والسلام فقال وظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال: (قال لَئِن اتَّخذتَ إِلهاً غيري لأجْعلنَّكَ من المسجونين)، (الشعراء 29)... إلى آخر ما قص الله عز وجل عنه، حتى قصمه الله تعالى قاصم الجبابرة، وأخذه أخذ عزيز مقتدر. ومناظرة الرسل لأعداء الله في الباب يطول ذكرها، ومقامات نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مع هذه الأمة أشهر من أن تذكر، فمن شاءها فليقرأ المصحف من فاتحته إلى خاتمته، إلا أن أمته لم يكن فيهم من يجحد الخالق، بل هم مُقِرُّون به وبربوبيته، غير أنهم لم يُقَدرُوه حق قدره، بل عبدوا معه غيره، ولهذا قال تعالى في شأنهم: (وَلَئِن سألْتهم مَنْ خَلَقَ السماواتِ والأرضِ ليقولُن اللّه)، (لقمان: 25، والزمر: 38)، (ولئن سألتهم من نَزّل من السماء ماءً فأحيا به الأرضَ من بعد مَوْتها ليقولُن اللّه)، (العنكبوت 63)، (وَلَئِن سألْتهم من خَلَقهم ليقوْلن اللّه)، (الزخرف 9)... إلى غير ذلك من الآيات، كما سيأتي بسطه، إن شاء الله تعالى.
عن الإمام مالك رحمه الله تعالى أن الرشيد سأله عن ذلك، فاستدل له باختلاف اللغات والأصوات والنغمات. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن بعض الزنادقة سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم: دعوني، فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه، ذكروا إلي أن سفينة في البحر موقرة، فيها أنواع من المتاجر، وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها، وتخترق الأمواج العظام، حتى تخلص منها، وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد. فقالوا: هذا شيء لا يقوله عاقل. فقال: ويحكم، هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي، وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة، ليس لها صانع؟ فبهت القوم ورجعوا إلى الحق، وأسلموا على يديه. وعن الشافعي رحمه الله تعالى أنه سئل عن وجود الخالق عز وجل فقال: هذا ورق التوت، طعمه واحد، تأكله الدود، فيخرج منه الإبريسم، وتأكله النحل، فيخرج منه العسل، وتأكله الشاء والبقر والأنعام، فتلقيه بعراً وروثاً، وتأكله الظباء، فيخرج منه المسك، وهو شيء واحد. وعن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله أنه سئل عن ذلك، فقال: ها هنا حصن حصين أملس، ليس له باب ولا منفذ، ظاهره كالفضة البيضاء، وباطنه كالذهب الإبريز، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره، فخرج منه حيوان سميع بصير، ذو شكل حسن وصوت مليح ا هـ. يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الديك. وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد: تأمل في رياض الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك عيون من لُجَين شاخصات *** بأحداث هي الذهب السبيك على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك. وقال ابن المعتز، ويروي لأبي العتاهية- رحمهما الله تعالى: فيا عجباً كيف يُعصى الإله *** أم كيف يجحده الجاحدُ ولله في كل تحريكة *** وفي كل تسكينة شاهد وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد. وسئل بعض الأعراب عن هذا، وما الدليل على وجود الرب تعالى فقال: يا سبحان الله، إن البعر ليدل على البعير، وإن أثر الأقدام ليدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج، ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟ ومن خطب قس بن ساعدة الإيادي، وكان على ملة إبراهيم- رحمه الله تعالى: أيها الناس، اجتمعوا فاسمعوا، وإذا سمعتم فعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، وقولوا وإذا قلتم فاصدقوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأحياء وأموات، ليل داج، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وضوء وظلام، وليل وأيام، وبر وآثام، إن في السماء خبراً، وإن في الأرض عبراً، يحار فيهن البصر، مهاد موضوع، وسقف مرفوع، ونجوم تغور، وبحار لا تفور، ومنايا دوان، ودهر خوان، كحد النسطاس ووزن القسطاس. أقسم قس قسماً، لا كاذباً فيه ولا آثماً، لئن كان في هذا الأمر رضى، ليكونن سخط، ثم قال: أيها الناس، إن لله ديناً هو أحب إليه من دينكم هذا الذي أنتم عليه، وهذا زمانه وأوانه. ثم قال: مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون، أرضوا بالمقام فأقاموا، أم تُركوا فناموا. وفي بعض ألفاظها قال: شرق وغرب، ويتم وحزب، وسلم وحرب، ويابس ورطب، وأجاج وعذب، وشموس وأقمار، ورياح وأمطار، وليل ونهار، وإناث وذكور، وبرار وبحور، وحب ونبات، وآباء وأمهات، وجمع وأشتات، وآيات في إثرها آيات، ونور وظلام، وشر وإعدام، ورب وأصنام ، لقد ضل الأنام، نشو مولود، ووأد مفقود، وتربية محصود، وفقير وغنيّ، ومحسن ومسيّ، تبّاً لأرباب الغفلة، ليصلحن العامل عمله، وليفقدن الآمل أمله، كلا بل هو إله واحد ليس بمولود ولا والد، أعاد وأبدى، وأمات وأحيا، وخلق الذكر والأنثى، رب الآَخرة والأولى. أما بعد فيا معشر إياد، أين ثمود وعاد، وأين الآباء والأجداد، وأين العليل والعوِاد، كل له معاد. يقسم قس برب العباد، وساطح المهاد لتحشرن على الانفراد، في يوم التناد، وإذا نفخ في الصور، ونقر في الناقور، ووعظ الواعظ، فانتبذ القانط وأبصر اللاحظ. فويل لمن صدف عن الحق الأشهر، والنور الأزهر، والعرض الأكبر في يوم الفصل، وميزان العدل، إذا حكم القدير، وشهد النذير، وبعد النصير، وظهر التقصير، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وأسماء الله الحسنى هي التي أثبتها تعالى لنفسه، وأثبتها له عبده ورسوله محمد- صلى الله عليه وسلم، وآمن بها جميع المؤمنين، قال الله تعالى: (وَللّه الأسماءُ الحسنى فادْعوهُ بها وَذَرُوا الذين يُلحدونَ في أسمائِه سيجزون بما كانوا يَعْملون)، (الأعراف 180)، وقال تعالى: (قُل ادعُوا اللّه أو ادعوا الرَّحمنَ أيّاً مّا تدعوا فله الأسماءُ الحسنى)، (الإسراء 110)، وقال تعالى: (اللّه لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى)، (طه 8)، وقال تعالى: (هو اللّه الذي لا إله إلا هو عالم الغيبُ والشهادةِ هو الرحمنُ الرحيمُ هو الله الذي لا إلهَ إلا هُوَ المَلِكُ القدُّوسُ السَّلامُ المؤمن المهيمنُ العَزيزُ الجَبّارُ المتَكَبّرُ سُبْحانَ اللّه عَما يُشركون هو اللّه الخالقُ البَارئُ المُصَوّرُ له الأسماءُ الحسنى يسبح له ما في السَّماواتِ والأرضِ وَهُوَ العزيزُ الحكيم)، (الحشر 22- 24). وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر. أخرجاه في الصحيحين، ورواه الترمذي وزاد: هو الله الذي لا إله إلا هو، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصور، الغفار القهار الوهاب، الرزاق الفتاح العليم، القابض الباسط، الخافض الرافع، المعز المذل، السميع البصير، الحكم العدل، اللطيف الخبير، الحليم العظيم، الغفور الشكور، العلي الكبير، الحفيظ المقيت، الحسيب الجليل، الكريم الرقيب، المجيب الواسع، الحكيم الودود، المجيد الباعث الشهيد، الحق الوكيل، القوي المتين، الولي الحميد، المحصي المبدئ المعيد، المحيي المميت، الحي القيوم، الواجد الماجد، الواحد الأحد، الفرد الصمد، القادر المقتدر، المقدم المؤخر، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الوالي المتعالي، البر التواب، المنتقم العفو الرءوف، مالك الملك ذو الجلال والإكرام، المقسط الجامع، الغني المغنى، المعطي المانع، الضار النافع، النور الهادي، البديع الباقي، الوارث الرشيد الصبور، ثم قال الترمذي: هذا حديث غريب. وقد روي من غير وجه عن أبي هريرة، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث ا هـ. ورواه الدارمي وزاد: كلها في القرآن. وأخرج ابن أبي الدنيا والطبراني، كلاهما في الدعاء، وأبو الشيخ والحاكم، وابن مردويه وأبو نعيم، والبيهقي، عن أبي هريرة: إِن للة تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة، أسأل الله، الرحمن الرحيم، الإله الرب، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ، المصور الحليم العليم، السميع البصير، الحي القيوم، الواسع اللطيف الخبير، الحنان المنان، البديع الغفور، الودود الشكور، المجيد المبدي المعيد، النور البارئ- وفي لفظ القائم- الأول الآخر، الظاهر الباطن، العفو الغفار، الوهاب الفرد- وفي لفظ القادر- الأحد الصمد، الوكيل الكافي، الباقي المغيث الدائم، المتعال ذا الجلال والإكرام، المولى النصير، الحق المتين، الوارث المنير، الباعث القدير- وفي لفظ المجيب- المحيي المميت الحميد- وفي لفظ الجميل- الصادق الحفيظ، المحيط الكبير، القريب الرقيب، الفتاح التواب القديم، الوتر الفاطر، الرزاق العلام العلي العظيم، الغني الملك المقتدر، الأكرم الرءوف المدبر، المالك القاهر الهادي، الشاكر الكريم، الرفيع الشهيد، الواحد ذا الطول، ذا المعارج، ذا الفضل، الخلاق الكفيل الجليل. وأخرج أبو نعيم، عن محمد بن جعفر رحمه الله تعالى قال: سألت أبي جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء التسعة والتسعين التي من أحصاها دخل الجنة، فقال: هي في القرآن، ففي الفاتحة خمسة أسماء: يا الله، يا رب، يا رحمن، يا رحيم، يا ملك، وفي البقرة ثلاثة وثلاثون اسماً: يا محيط، يا قدير، يا عليم، يا حكيم، يا علي، يا عظيم، يا تواب، يا بصير، يا ولي، يا واسع، يا كافي، يا رءوف، يا بديع، يا شاكر، يا واحد، يا سميع، يا قابض، يا باسط، يا حي، يا قيوم، يا غني، يا حميد، يا غفور، يا حليم، يا إله، يا قريب، يا مجيب، يا عزيز، يا نصير، يا قوي، يا شديد، يا سريع، يا خبير. وفي آل عمران: يا وهاب، يا قائم، يا صادق، يا باعث، يا منعم، يا متفضل. وفي النساء: يا حسيب، يا رقيب، يا شهيد، يا مقيت، يا وكيل، يا علي، يا كبير. وفي الأنعام: يا فاطر، يا قاهر، يا لطيف، يا برهان. وفي الأعراف: يا محيي، يا مميت. وفي الأنفال: يا نعم المولى، ويا نعم النصير. وفي هود: يا حفيظ، يا مجيد، يا ودود، يا فعال لما تريد. وفي الرعد: يا كبير، يا متعالي. وفي إبراهيم: يا منان، يا وارث. وفي الحجر: يا خلاق. وفي مريم: يا فرد. وفي طه: يا غفار. وفي قد أفلح: يا كريم. وفي النور: يا حق، يا مبين. وفي الفرقان: يا هاد. وفي سبأ: يا فتاح. وفي الزمر: يا عالم. وفي غافر: يا قابل التوب، يا ذا الطول، يا رفيع. وفي الذاريات: يا رزاق، يا ذا القوة، يا متين. وفي الطور: يا بر. وفي اقتربت: يا مقتدر، يا مليك. وفي الرحمن: يا ذا الجلال والإكرام، يا رب المشرقين، يا رب المغربين، يا باقي، يا معين. وفي الحديد: يا أول، يا آخر، يا ظاهر، يا باطن. وفي الحشر: يا ملك، يا قدوس، يا سلام، يا مؤمن، يا مهيمن، يا عزيز، يا جبار، يا متكبر، يا خالق، يا بارئ، يا مصور. وفي البروج: يا مبدي، يا معيد. وفي الفجر: يا وتر. وفي الإخلاص: يا أحد، يا صمد، انتهى. وقد حررها الحافظ ابن حجر رحمه الله في (تلخيص الحبير) تسعة وتسعين اِسماً من الكتاب العزيز، منطبقة على لفظ الحديث ورتبها هكذا: الله الرب، الإله الواحد، الرحمن الرحيم، الملك القدوس، السلام المؤمن المهيمن، العزيز الجبار المتكبر، الخالق البارئ المصور، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الحي القيوم، العلي العظيم، التواب الحليم، الواسع الحكيم، الشاكر العليم، الغني الكريم، العفو القدير، اللطيف الخبير، السميع البصير، المولى النصير، القريب المجيب، الرقيب الحسيب، القوي الشهيد، الحميد المجيد، المحيط الحفيظ، الحق المبين، الغفار القهار، الخلاق الفتاح، الودود الغفور، الرءوف الشكور، الكبير المتعال، المقيت المستعان، الوهاب الحفي، الوارث الولي، القائم القادر، الغالب القاهر، البر الحافظ، الأحد الصمد، المليك المقتدر، الوكيل الهادي، الكفيل الكافي، الأكرم الأعلى، الرزاق ذو القوة المتين، غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول، رفيع الدرجات، سريع الحساب، فاطر السماوات والأرض، بديع السماوات والأرض، نور السماوات والأرض، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام ا هـ. وقد عدها جماعة غير من ذكرنا، كسفيان بن عيينة، وابن حزم، والقرطبي وغيرهم، وعدها ابن العربي المالكي في (أحكام القرآن) مرتباً لها على السور، لكنه أخطأ في بعض ما عده، كما سنشير إليه قريباً، إن شاء اللّه تعالى. واعلم أن أسماء اللّه عز وجل ليست بمنحصرة في التسعة والتسعين المذكورة في حديث أبي هريرة، ولا فيما استخرجه العلماء من القرآن، بل ولا فيما علمته الرسل والملائكة وجميع المخلوقين، لحديث ابن مسعود عند أحمد، وغيره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمه، وأبدله مكانه فرحاً. فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها. واعلم أن من أسماء الله عز وجل ما لا يطلق عليه إلا مقترناً بمقابله، فإذا أطلق وحده، أوهم نقصاً، تعالى الله عن ذلك، فمنها المعطي المانع، والضار النافع، والقابض الباسط، والمعز المذل، والخافض الرافع، فلا يطلق على الله عز وجل المانع، الضار، القابض، المذل، الخافض، كلا على انفراده، بل لا بد من ازدواجها بمقابلاتها، إذ لم تطلق في الوحي إلا كذلك، ومن ذلك المنتقم، لم يأت في القرآن إلا مضافاً إلى ذو، كقوله تعالى: (عَزيز ذو انْتقام)، (آل عمران 4)، أو مقيداً بالمجرمين، كقوله تعالى: (إِنا من المجرمين مُنْتقمونَ)، (السجدة 22). واعلم أنه قد ورد في القرآن أفعال، أطلقها الله عز وجل على نفسه على سبيل الجزاء العدل والمقابلة، وهي فيما سيقت فيه مدح وكمال، لكن لا يجوز أن يشتق له تعالى منهما أسماء، ولا تطلق عليه في غير ما سيقت فيه من الآيات، كقوله تعالى: (إِنَّ المنافقينَ يخادِعونَ اللّه وَهُوَ خادِعُهم)، (النساء 142)، وقوله: (وَمَكروا وَمَكَر الله)، (النساء 54)، وقوله تعالى: (نَسُوا اللّه فَنَسِيَهم)، (التوبة 67)، وقوله تعالى: (وإذا خَلَوا إلى شَياطِينِهِم قالوا إنَّا مَعَكم إِنَّما نَحْنُ مستهزئون اللّه يَستهزئ بِهم)، (البقرة 14) ونحو ذلك، فلا يجوز أن يطلق على الله تعالى- مخادع ماكر، ناس مستهزئ ونحو ذلك مما يتعالى الله عنه، ولا يقال الله يستهزئ ويخادع ويمكر وينسى على سبيل الإطلاق، تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً. وقال ابن القيم- رحمه الله تعالى: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقاً، ولا ذلك داخل في أسمائه الحسنى، ومن ظن من الجهاد المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه تعالى الماكر المخادع المستهزئ الكائد، فقد فاه بأمر عظيم، تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه، وغر هذا الجاهل أنه- سبحانه وتعالى- أطلق على نفسه هذه الأفعال، فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه تعالى كلها حسنى، فأدخلها في الأسماء الحسنى، وقرنها بالرحيم الودود، الحكيم الكريم، وهذا جهل عظيم، فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقاً، بل تمدح في موضع، وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله تعالى مطلقاً، فلا يقال إنه تعالى يمكر ويخادع، ويستهزئ ويكيد، فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد والمتكلم، ولا الفاعل ولا الصانع؛ لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها، كالحليم والحكيم، والعزيز والفعال لما يريد، فكيف يكون منها الماكر والمخادع والمستهزئ، ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى الداعي والآتي، والجائي والذاهي، والقادم والرائد، والناسي والقاسم، والساخط والغضبان واللاعن، إلى أضعاف أضعاف ذلك من التي أطلق تعالى على نفسه أفعالها في القرآن، وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل. والمقصود أن الله- سبحانه وتعالى- لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق، سبحانه وتعالى. قلت: ومن هنا يتبين لك ما ذكرنا من النظر في بعض ما عدّه ابن العربي، فإن الفاعل والزارع إذا أطلقا بدون متعلق ولا سياق، يدل على وصف الكمال فيهما، فلا يفيدان مدحاً، أما في سياقها من الآيات التي ذكرت فيها، فهي صفات كمال ومدح وتوحد، كما قال تعالى: (كما بَدأنا أوَلَّ خَلْقٍ نُعيدُه وعدا علينا إِنا كنا فاعلين)، (الأنبياء 104) وقال تعالى: (أفرأيْتُم ما تحرثون أأنْتُم تَزرعونَهُ أمْ نَحْنُ الزارعون)، (الواقعة 63- 64) الآيات، بخلاف ما إذا عدت مجردة عن متعلقاتها، وما سيقت فيه وله، وأكبر مصيبة أن عد في الأسماء الحسنى رابع ثلاثة، وسادس خمسة، مصرحاً قبل ذلك بقوله: وفي سورة المجادلة اسمان فذكرهما. وهذا خطأ فاحش، فإن الآية لا تدل على ذلك ولا تقتضيه بوجه، لا منطوقاً ولا مفهوماً، فإن الله عز وجل قال: (ألَم تَرَ أنَّ اللّه يَعْلَمُ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ ما يكونُ من نجوى ثلاثةٍ إلا هُوَ رابِعُهم ولا خَمْسة إلا هو سادسُهم ولا أدنى من ذلكَ ولا أكْثَر إلا هُوَ مَعَهم أينما كانوا)، (المجادلة 8) الآية، وأين في هذا السياق رابع ثلاثة، سادس خمسة؟ وكان حقه اللائق بمراده أن يقول: رابع كل ثلاثة في نجواهم، وسادس كل خمسة كذلك، فإنه تعالى يعلم أفعالهم، ويسمع أقوالهم كما هو مفهوم من صدر الآية، ولكن لا يليق بهذا المعنى إلا سياق الآية. والله تعالى أعلم. واعلم أن دلالة أسماء الله تعالى حق على حقيقتها مطابقةً وتضمناً والتزاما، فدلالة اسمه تعالى " الرحمن " على ذاته عز وجل مطابقة، وعلى صفة الرحمة تضمناً، وعلى الحياة وغيرها التزاماً، وهكذا سائر أسمائه تبارك وتعالى. وليست أسماء الله تعالى غيره كما يقوله الملحدون في أسمائه، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً، فإن الله عز وجل هو الإله، وما سواه عبيد، وهو الرب، وما سواه مربوب، وهو الخالق وما سواه مخلوق، وهو الأول فليس قبله شيء، وما سواه محدث كائن بعد أن لم يكن، وهو الآخر الباقي، فليس بعده شيء، وما سواه فان، فلو كانت أسماء الله تعالى غيره كما زعموا، لكانت مخلوقة مربوبة محدثة فانية، إذ كل ما سواه كذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. أسماء الله غير مخلوقة. وقال عثمان بن سعيد الدارمي- نقمة الله على بشر المريسي وذويه: باب الإيمان بأسماء الله تعالى وأنها غير مخلوقة، قال: ثم اعترض المعترض- يعني: ابن الثلجي- أسماء الله تعالى المقدسة، فذهب في تأويلها مذهب إمامه المريسي، فادعى أن أسماء الله غير الله، وأنها مستعارة مخلوقة كما أنه قد يكون شخص بلا اسم، فتسميته لا تزيد في الشخص ولا تنقص، يعني الخبيث أن الله تعالى كان مجهولا كشخص مجهول، لا يهتدي لاسمه ولا يدري ما هو، حتى خلق الخلق فابتدعوا له أسماء من مخلوق كلامهم، فأعاروه إياها من غير أن يعرف له اسم قبل الخلق، قال: ومن ادعى التأويل في أسماء الخلق، قال: ومن ادعى التأويل في أسماء الله، فقد نسب الله تعالى إلى العجز والوهن، والضرورة والحاجة إلي الخلق؛ لأن المستعير محتاج مضطر، والمعير أبدا أعلى منه وأغنى، ففي هذه الدعوى استجهال الخالق، إذ كان بزعمه هملا لا يدري ما اسمه، والله المتعالي عن هذا الوصف المنزه عنه؛ لأن أسماء الله تعالى هي تحقيق صفاته، سواء عليك قلت عبدت الله أو عبدت الرحمن أو الرحيم أو الملك العزيز الحكيم، وسواء على الرجل قال كفرت بالله أو قال كفرت بالرحمن الرحيم أو بالخالق العزيز الحكيم، وسواء عليك قلت عبد الله أو عبد الرحمن أو عبد العزيز أو عبد المجيد، وسواء عليك قلت يا الله أو يا رحمن أو يا رحيم أو يا مالك يا عزيز يا جبار، بأي اسم دعوته من هذه الأسماء أو أضفته إليه، فإنما تدعو الله نفسه، من شك فيه فقد كفر، وسواء عليك قلت ربي الله أو ربي الرحمن، كما قال تعالى: (وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون)، (الأنبياء 112)، وقال تعالى: (سبح لله ما في السماوات وما في الأرض)، (الصف 1)، وقال: (وسبحوه بكرة وأصيلا)، (الأحزاب 42)، كذلك قال في الاسم: (سبح اسم ربك الأعلى)، كما قال تعالى: (يسبح لله)، ولو كان الاسم مخلوقا مستعارا غير الله، لم يأمر الله تعالى أن يسبح مخلوق غيره، وقال تعالى: (له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم)، (الحشر 24)، ثم ذكر الآلهة التي تعبد من دون الله عز وجل بأسمائها المخلوقة المستعارة، فقال تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)، (النجم 23)، وكذلك قال هود لقومه حين قالوا: (أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا)، (الأعراف 70)، فقال لهم نبيهم: (أتجادلونني في أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)، (الأعراف 71)، يعني أن أسماء الله تعالى لم تزل كما لم يزل عز وجل، وأنها بخلاف هذه الأسماء المخلوقة التي أعاروها الأصنام والآلهة التي عبدوها من دونه. فإن لم تكن أسماء الله بخلافها، فأي توبيخ لأسماء هذه الآلهة المخلوقة؟ إذ كانت أسماؤها وأسماء الله تعالى مخلوقة مستعارة عندكم بمعنى واحد، وكلها من تسمية العباد وتسمية آبائهم بزعمهم، ففي دعوى هذا المعارض أن الخلق عرفوا الله إلى عباده بأسماء ابتدعوها، لا أن الله عرفهم بها نفسه، فأي تأويل أوحش في أسماء الله تعالى من أن يتأول رجل أنه كان كشخص مجهول، أو بيت، أو شجرة، أو بهيمة لم يسبق لشيء منها اسم، ولم يعرف ما هو حتى عرفه الخلق بعضهم بعضا، ولا تقاس أسماء الله تعالى بأسماء الخلق؛ لأن أسماء الخلق مخلوقة مستعارة، وليست أسماؤهم نفس صفاتهم بل مخالفة لصفاتهم، وأسماء الله تعالى صفاته ليس شيء منها مخالفا لصفاته، ولا شيء من صفاته مخالفا لأسمائه. فمن ادعى أن صفة من صفات الله مخلوقة أو مستعارة، فقد كفر وفجر؛ لأنك إذا قلت الله، فهو الله، وإذا قلت الرحمن، فهو الرحمن وهو الله، فإذا قلت الرحيم، فهو كذلك، وإذا قلت حكيم عليم حميد مجيد جبار متكبر قاهر قادر، فهو كذلك، وهو الله سواء لا يخالف اسم له صفته ولا صفته اسما , وقد يسمى الرجل حكيما وهو جاهل , وحكما وهو ظالم , وعزيزا وهو حقير , وكريما وهو لئيم، وصالحا وهو طالح , وسعيدا وهو شقي , ومحمودا وهو مذموم , وحبيبا وهو بغيض , وأسدا وحمارا وكلبا وجديا وكليبا وهرا وحنظلة وعلقمة وليس كذلك. والله تعالى وتقدس اسمه كل أسمائه سواء، لم يزل كذلك ولا يزال، لم تحدث له صفة ولا اسم لم يكن كذلك، كان خالقا قبل المخلوقين، ورازقا قبل المرزوقين، وعالما قبل المعلومين، وسميعا قبل أن يسمع أصوات المخلوقين، وبصيرا قبل أن يرى أعيانهم مخلوقة، قال الله تعالى: (الرحمن على العرش استوى)، (طه 5)، وقال: (الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوي على العرش)، (السجدة 4)، وقال في موضع: (ثم استوى على العرش الرحمن)، (الفرقان 59)؛ لأنهما بمعني واحد، ولو كان كما ادعى المعارض- يعني: ابن الثلجي وإمامه المريسي، لكان الخالق والمخلوق استويا جميعا على العرش، إذ كانت أسماؤه مخلوقة عندهم، إذ كان الله في دعواهم في حد المجهول أكثر منه في حد المعروف؛ لأن لحدوث الخلق حدا ووقتا، وليس لأزلية الله تعالى حد ولا وقت، لم يزل ولا يزال، وكذلك أسماؤه لم تزل ولا تزال. ثم احتج المعارض لترويج مذهبه هذا بأقبح قياس، فقال: أرأيت لو كتبت اسما في رقعة، ثم احترقت الرقعة، أليس إنما تحرق الرقعة ولا يضر الاسم شيئا؟ فيقال لهذا التائه الذي لا يدري ما يخرج من رأسه: إن الرقعة وكتابة الاسم ليس كنفس الاسم، إذا احترقت الرقعة احترق الخط، وبقي اسم الله له وعلى لسان الكاتب لم يزل قبل أن يكتب، لم تنقص النار من الاسم ولا ممن له الاسم شيئا، وكذلك لو كانت أسماء المخلوقين، لم تنقص النار من أسمائهم ولا من أجسامهم شيئا، وكذلك لو كتبت الله بهجائه في رقعة، ثم أحرقت الرقعة لاحترقت الرقعة، وكان الله سبحانه بكماله على عرشه. وكذلك لو صور رجل في رقعة، ثم ألقيت في النار، لاحترقت الرقعة ولم يضر المصور شيئا، وكذلك القرآن لو احترقت المصاحف كلها، لم ينقص من القرآن نفسه حرف واحد، وكذلك لو احترق القراء كلهم أو قتلوا أو ماتوا، لبقي القرآن بكماله كما كان لم ينقص منه حرف واحد؛ لأنه منه بدا وإليه يعود عند فناء الخلق بكماله غير منقوص، وقد كان للمريسي في أسماء الله مذهب كمذهبه في القرآن، كان القرآن عنده مخلوقا من قول البشر، لم يتكلم الله بحرف منه في دعواه، وكذلك أسماء الله تعالى عنده من ابتداع البشر، من غير أن يقول تعالى: (إني أنا الله رب العالمين)، (القصص 30) بزعمه قط، وزعم أني متى اعترفت بأن الله تعالى تكلم بـ: (إني أنا الله رب العالمين)، لزمني أن أقول تكلم بالقرآن، ولو اعترفنا بذلك لانكسر علينا مذهبنا في القرآن، وقد كسره عليهم علي رغم أنوفهم، فقال: (إني أنا الله رب العالمين) ولا يستحق مخلوق أن يتكلم بهذا، فإن فعل ذلك كان كافرا، كفرعون الذي قال: (أنا ربكم الأعلى)، (النازعات 24)، فهذا الذي ادعوا في أسماء الله عز وجل أصل كبير من أصول الجهمية التي بنوا عليها محنتهم، وأسسوا بها ضلالتهم، غالطوا بها الأغمار والسفهاء، وهم يرون أنهم يغالطون بها الفقهاء، ولئن كان السفهاء وقعوا في غلط مذهبهم، فإن الفقهاء منهم لعلى يقين. أرأيتم قولكم: إن أسماء الله مخلوقة، فمن خلقها؟ وكيف خلقها؟ أجعلها أجساما وصورا تشغل أعيانها أمكنة دونه من الأرض والسماء أم موضعا دونه في الهواء؟ فإن قلتم لها أجسام دونه، فهذا ما تنقمه عقول العقلاء، وإن قلتم خلقها في ألسنة العباد فدعوه بها وأعاروها إياه، فهو مما ادعينا عليكم أن الله تعالى كان بزعمكم مجهولا لا اسم له، حتى أحدث الخلق فأحدثوا له أسماء من مخلوق كلامهم، فهذا هو الإلحاد في أسماء الله والتكذيب بها، قال الله تعالى: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)، (الفاتحة 2- 4) كما يضيفه إلى رب العالمين، ولو كان كما ادعيتم لقيل الحمد لله رب العالمين، المسمى الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وكما قال: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق)، (آل عمران 2- 3) كما قال: (تنزيل الكتاب من الله)، (النصر 1) كذلك قال: (تنزيل من الرحمن الرحيم)، (تنزيل من حكيم حميد)، (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم)، (النمل 6)، كلها بمعنى واحد، وكلها هي الله، والله هو أحد أسمائه، إلى أن قال: وكما قال تعالى في كتابه: (أنا الله رب العالمين)، كذلك قال على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: (أنا الرحمن)، ثم روى بسنده حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: أنا الرحمن، وهي الرحم شققت لها من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته. فيقول الله تعالي: أنا شققت لها من اسمي، وادعت الجهمية مكذبين لله ولرسوله أنهم أعاروه الاسم الذي شقها منه، ومن أين علم الخلق أسماء الخالق قبل تعليمه إياهم، فإنه لم يعلم آدم ولا الملائكة أسماء المخلوقين حتى علمهم الله تعالى من عنده، وكان بدء علمها منه، فقال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)، (البقرة 31- 33). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تسعة وتسعين اسما، ومن أحصاها وحفظها دخل الجنة. وساق الأسماء الحسنى كما قدمنا، ثم قال: فهذه كلها أسماء الله تعالى لم تزل له كما لم يزل بأيها دعوت، فإنما تدعو الله نفسه، قال: ولن يدخل الإيمان قلب رجل حتى يعلم أن الله تعالى لم يزل إلها واحدا بجميع أسمائه وجميع صفاته، لم يحدث له منها شيء، كما لم تزل وحدانيته. انتهى كلامه- رحمه الله تعالى -. واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من أحصاها، فقال البخاري وغيره من المحققين: معناه حفظها، وأن إحدى الروايتين مفسرة للأخرى. وقال الخطابي: يحتمل وجوها: أحدها: أن يعدها حتى يستوفيها، بمعنى أن لا يقتصر على بعضها فيدعو الله بها كلها، ويثني عليه بجميعها، فيستوجب الموعود عليها من الثواب. وثانيها: المراد بالإحصاء الإطاقة، والمعنى: من أطاق القيام بحق هذه الأسماء والعمل بمقتضاها، وهو أن يعتبر معانيها، فيلزم نفسه بمواجبها، فإذا قال الرزاق، وثق بالرزق، وكذا سائر الأسماء. ثالثها: المراد بها الإحاطة بجميع معانيها، وقيل أحصاها عمل بها، فإذا قال الحكيم، سلم لجميع أوامره وأقداره، وأنها جميعها على مقتضى الحكمة، وإذا قال القدوس، استحضر كونه مقدسا منزها عن جميع النقائض , واختاره أبو الوفاء بن عقيل، وقال ابن بطال: طريق العمل بها أن ما كان يسوغ الاقتداء به كالرحيم والكريم فيمرن العبد نفسه على أن يصح له الاتصاف بها، يعني فيما يقوم به، وما كان يختص به نفسه كالجبار والعظيم، فعلى العبد الإقرار بها والخضوع لها وعدم التحلي بصفة منها، وما كان فيه معنى الوعد، يقف فيه عند الطمع والرغبة، وما كان فيه معنى الوعيد، يقف منه عند الخشية والرهبة ا هـ. والظاهر أن معنى حفظها وأحصاها هو معرفتها والقيام بعبوديتها، كما أن القرآن لا ينفع حفظ ألفاظه من لا يعمل به، بل جاء في المراق من الدين أنهم يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم. وقال ابن القيم رحمه الله تعالى بعد كلام طويل على أولوية الله تعالى وما في ذلك الشهود من الغنى التام، قال: وليس هذا مختصا بأوليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب- سبحانه- يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها، فمن شهد مشهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه، كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق، وتعبد بمقتضى هذه الصفة، بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجيا له مطرقا واقفا بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعلمه صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه، فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء، والتولية والعزل، والخفض والرفع، والعطاء والمنع، وكشف البلاء وإرساله، وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه، فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء: (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون)، (السجدة 5). فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية، استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار، ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علما تفصيليا، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته، وجميع أحواله وعزماته وجوارحه، علم أن حركاته الظاهرة والباطنة، وخواطره وإرادته، وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه، علانية بادية لا يخفى عليه منها شيء، وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه- سبحانه- لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، وسواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع، ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، فهي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة، وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير- جل جلاله- الذي يرى دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة، ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته، وتيقن أنها بمرأى منه سبحانه، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء. وكذلك إذا شهد مشهد القيومية، الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه، المقيم لغيره، القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكامل قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية، وأعلى منه مشهد الإلهية الذي هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا الله، وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك، فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل؛ لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على الحقيقة، والمألوه وحده، وله الحكم فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى بغيره فقر وفاقة، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة. فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره، فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذي انتهت إليه الرغبات، وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على الحقيقة هو الغني الصمد الكامل في أسمائه وصفاته الذي حاجة كل أحد إليه، ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به، وليس قيامه بغيره، إلى أن قال: فمشهد الألوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأسماء والصفات، وحظ العباد منه بحسب حظهم من معرفة الأسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله- جل جلاله- فإن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأسماء الحسنى كلها إليه، فيقال الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أسماء الله، ولا يقال الله من أسماء الرحمن، قال الله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى)، فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإلهية وقام بحقه من التعبد الذي هو كمال الحب مع كمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإله الحق، وصار من أغنى العباد، ولسان مثل هذا يقول: غنيت بلا مال عن الناس كلهم *** وإن الغنى العالي عن الشيء لا به ا هـ. تفسير قوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه). وقوله تعالى: (وذروا الذين يلحدون في أسمائه)، (الأعراف 180)، قال ابن عباس وابن جريح ومجاهد: هم المشركون، عدلوا بأسماء الله تعالى عما هي عليه، فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، ومناة من المنان، وقيل هي تسميتهم الأصنام آلهة. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: يلحدون في أسمائه، أي يكذبون. وقال قتادة: يلحدون يشركون في أسمائه. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: الإلحاد التكذيب، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد والميل والجور والانحراف، ومنه اللحد في القبر؛ لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمة الحفر ا هـ. وهذه الأقوال متقاربة، والإلحاد يعمها، وهو ثلاثة أقسام: الأول: إلحاد المشركين، وهو ما ذكره ابن عباس وابن جريج ومجاهد من عدولهم بأسماء الله تعالى عما هي عليه، وتسميتهم أوثانهم بها مضاهاة لله عز وجل ومشاقة له وللرسول صلى الله عليه وسلم . الثاني: إلحاد المشبهة الذين يكيفون صفات الله عز وجل ويشبهونها بصفات خلقه مضادة له تعالى وردا لقوله عز وجل: (ليس كمثله شيء ولا يحيطون به علما)، وهو مقابل لإلحاد المشركين، فأولئك جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق، وسووه به، وهؤلاء جعلوا الخالق بمنزلة الأجسام المخلوقة، وشبهوه بها تعالى وتقدس عن إفكهم. الثالث: إلحاد النفاة، وهم قسمان: قسم أثبتوا ألفاظ أسمائه تعالى دون ما تضمنته من صفات الكمال، فقالوا: رحمن رحيم بلا رحمة، عليم بلا علم، حكيم بلا حكمة، قدير بلا قدرة، سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، واطردوا بقية الأسماء الحسنى هكذا، وعطلوها عن معانيها وما تقتضيه وتتضمنه من صفات الكمال لله تعالى وهم في الحقيقة كمن بعدهم، وإنما أثبتوا الألفاظ دون المعاني تسترا، وهو لا ينفعهم. وقسم لم يتستروا بما تستر به إخوانهم، بل صرحوا بنفي الأسماء وما تدل عليه من المعاني، واستراحوا من تكلف أولئك، وصفوا الله تعالى بالعدم المحض الذي لا اسم له ولا صفة، وهم في الحقيقة جاحدون لوجود ذاته تعالى مكذبون بالكتاب وبما أرسل الله به رسله. وكل هذه الأربعة الأقسام كل فريق منهم يكفر مقابله، وهم كما قالوا كلهم كفار بشهادة الله وملائكته وكتبه ورسله والناس أجمعين من أهل الإيمان والإثبات، الواقفين مع كلام الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه أجمعين. (صفاته العلى) أي وإثبات صفاته العلى التي وصف بها نفسه تعالى ووصفه بها نبيه صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال ونعوت الجلال، من صفات الذات وصفات الأفعال، مما تضمنته أسماؤه بالاشتقاق كالعلم والقدرة، والسمع والبصر، والحكمة والرحمة، والعزة والعلو، وغيرها، ومما أخبر به عن نفسه، وأخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يشتق منه اسما، كحبه المؤمنين والمتقين والمحسنين، ورضائه عن عباده المؤمنين، ورضاه لهم الإسلام دينا، وكراهته انبعاث المنافقين، وسخطه على الكافرين وغضبه عليهم، وإثبات وجهه ذي الجلال والإكرام، ويديه المبسوطتين بالإنفاق، وغير ذلك مما هو ثابت في الكتاب والسنة والفطر السليمة، وسيأتي الكلام على ما ذكر من ذلك في المتن في محله، وما لم يذكر في المتن ففي خاتمة الكتاب، إن شاء الله تبارك وتعالى.
|